Wednesday, February 08, 2012

العصيان متعة لا يعادلها الا منع التجول

لم يكن للساعة وجود في ذلك الوقت من عمري لا أذكر الايام أو الشهور بالضبط إلا أني أعرف أنها في مرحلتي العمرية ما بين 6 و12 عاما. من الطبيعي أن تدور حياة الأطفال -وككل الأطفال لم أكن أعتبر نفسي طفلة- في فلك محدد: المدرسة، اللعب مع أبناء الجيران ومشاهدة الرسوم المتحركة.
هنا حيث عشت طفولتي وما تلاها انحرفت الطفولة عن مجراها انحرافا لا أزال أذكره ممتعا لا يخلو من أدوات اللهو والمغامرة. طفولتي شكلت في الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي لا زلت أراها حية نابضة ومبتسمة كلما دقت الباب.

الانتفاضة الاولى لفتاة السادسة حتى الاثني عشرعاما كانت صورا محددة: إضراب، اضراب شامل، منع التجول، منشورات سياسية، جنازة شهيد واحاديث الكبار من حولي وأسماء لا حصر لها من الابطال والقادة والفدائيين والشهداء والرؤساء التي لا تعني لي شيئا في ذلك الوقت.
كان اهتمامي واهتمام أخي وأختي وأولاد الجيران ينصب على مصطلحين: الإضراب الشامل ومنع التجول ولم يكن أبشع عقاب لحريتنا المشروطة سوى خبر أن غدا إضراب، كان السؤال الوحيد الذي نوجهه لامي وأبي حين ينقل أحدهما الخبر "مش إضراب شامل؟"
الإضراب بالنسبة لنا هو مذاكرة دروس اليوم والتحضير لحصص الغد والاستيقاظ المبكر والانتظار على مقاعد الدراسة منتظرين دخول الشباب المدرسة ومطالبة المديرة باخراجنا وايقاف اليوم الدراسي لكي ننضم الى مسيرة ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي. ومن كان منا يأبه بالاحتلال أو بالاسرائيلي. ظهور الشباب على باب المدرسة كان يعني الجري الي المنزب بأقصى سرعة ورمي الحقيبة في الساحة امام المنزل والتجمع مع ابناء الجيران لنلعب الغميضة أو السبع حجار حتى سماع جرس العودة الى المنزل: أول طلقات الجيش الاسرائيلي النارية.
الاضراب الشامل كان عتقا من الأسر فمن الممكن أن يمتد الى ثلاثة أيام متواصلة لم يكن يعنيني وجه أبي المكفهر أو القلق الغير مبرر في ملامح أمي حين يصل الخبر، بالنسبة لهم الإضراب الشامل هو مظاهرات حاشدة في مدن فلسطين ومواجهة دامية محتملة بين حجارة الشباب ونيران الجيش الاسرائيلي العمياء. أما نحن فكان الاضراب الشامل كافيا لأن نركض الى غرفتنا ونتفرق فوق دولاب الملابس وتحت السرير وأمام درج الملابس الداخلية لنخرج كنزنا الثمين: البنانير/ الجلال/ بيلي. أحب البنانير الى قلبي كان بنورا أبيضا حليبي اللون خسرته في اللعبة ما قبل الاخيرة من العاب الانتفاضة
ولا أزال أذكر محاولاتي اليائسة لاستعادته في خمس ألعاب تلت لعبة خسارته ذلك اليوم.
الطامة الكبرى كانت حين لا نجد البنانير ونستنتج أن أمي رمتها لتمنعنا من اللعبة التي كانت تتسبب بجروح في الركبة من أثر القرفصاء على الارض أو على ظهر الكف خلال نصويب البنور.
شو نعمل ماما كابّة البنانير -
هلا بننزل نجيب -
بركي أبو وليد مسكر عشان الاضراب -
بنروح ع شارع السكة بضلهم فاتحين لليل هناك -
(سمي شارع السكة لانه كان الشارع الذي تمر به سكة حديد الحجاز التي ريطت دمشق بالمدينة المنورة حتى الحرب العالمية 1916)

تعود الساعة لتفقد معناها -بكرة إضراب شامل- آخر ما يرى منا أرجلنا تتقافز على درجات المنزل الى الشارع وقد سبقنا بنات وأولاد الجيران. الغميضة وألعاب البنانير من "المور" حتى "الجورة" والسبع حجار والجري حتى ينادي أحد الاباء أو كلهم بأن علينا للعودة الى المنزل وشفاهنا تبرطم "اشمعنا احنا نروّح وهنة هلأ ببلشوا يلعبوا شدة وطاولة زهر، شو مفكرينا هبايل والا بنخاف"
من الممكن ان تتحول المتعة الى إثارة ان مرت دورية من دوريات الجيش الاسرائيلي ونحن في الشارع ليصرخ احد الجنود مصوبا سلاحه باتجاهنا "روخ عالبيت، منع تجول" فنتناثر في مداخل البيوت القريبة ونراقب الدورية من أماكننا ثم نتقافز من جديد في الشارع حين يختفي آخر مشهد منها.

تتداول الأيام الاضراب والاضراب الشامل ومنع التجول اللذيذة، منع التجول هو تصريح غير مشروط بالحرية لا يعرف نهاية ولا يأبه لدقات الساعة ولا أجندة أيام الشهر. يبدأ تصريح الحرية بصوت الحاكم العسكري من مآذن المدينة "إلى أهالي مدينة نابلس الكرام بأمر من الحاكم العسكري يفرض منع التجول من مساء اليوم وحتى اشعار آخر" وينتهي بنفس الصوت "إلى أهالي مدينة نابلس الكرام بأمر من الحاكم العسكري يرفع منع التجول ابتداءا من مساء اليوم"، نفس طقوس الاضراب الشامل الا أن أبي وأمي يبدآن بأسئلة لا تعنينا: أسمعها كالموسيقى الخلفية أثناء بحثنا عن البنانير:
"شو صار ليش منع التجول؟"-
"بقولوا في شب ضارب مستوطن سكينة وبدوروا عليه" -
وين؟ -
قضا نابلس -
الله يستر هلا ما بخلو دار وما بفتشوها -
يا ستي، انشالله صوت القدس تبقى واضحة نشوف شو في -
الاضراب ومنع التجول منبع لإحساس واحد يلف الجو كخيوط كرة الصوف الدافئة التي تلسع أحيانا إن لامست
الجسد الطري، طعم الخبز الحاف الذي عجنته أمي وخبزه أبي للتو ساخنا طريا ومقرمشا في نفس الوقت وتجارب أمي وأبي إن تصادف شهر رمضان مع منع التجول لاعداد عجينة القطايف وشويها على ظهر المقلاة المقلوبة والعوامة المنزلية والقراقيش والحلاوة والزلابية.

لا زال منع التجول والاضراب مرتبطا بإحساسي بدف الصوف ولسعته على الجسد وااللعب والجري في الشارع ورائحة الاطعمة التي تشترى عادة من السوق وتحضر في البيت لقتل ساعات النهار حتى يحين المساء فيتسحّب والدي ووالدتي تفاديا لدوريات الجيش التي لا ترحم الكبار وتحولهم الى معتقلين بحجة خرق منع التجول الى بيوت الجيران ليلتفوا حول طاولات الزهر والشدة او الشاي والارجيلة.

عادت كل هذه الذكريات لي قوية حية نابضة برائحتها وملمسها حين أعلنت مصر الاضراب والعصيان المدني صور الاضراب لذيذة والعصيان ألذ واشهى، ستعيش يا شعب مصر تجربة جديدة في الصراع من اجل الحرية وان استسلم الشعب لها سيستلذ بكوب الشاي الساخن من مطبخ احد الجيران يصبه للواقفين امام باب المبنى والخبز الذي خبزته أخرى للمرة الأولى والسخرية والتعليقات ونسيان الساعة وانزال اجندة العام عن الحائط.
أُسأل عن سبب حبي لك يا مصر كيف لا وأنت الزمن الجميل الذي لا أرجو له حاضر فلسطين

مع حبي وامنياتي بعصيان مدني وإضراب شامل